Posts

رسائل إلى أبي - كل ما أردت أقول، ولم أقل (1)

1 لم أذهب أبدًا إلى طبيب نفسي. ذهبتُ مرة واحدة في مدينة إسبانية، تبدو لي حقيقة أنني عشتُ فيها ما يزيد على العام، حلمًا أكثر منه ذكرى. لم تعيقني اللغة يومها، ولم يكن لدي أي ملاحظات على الطبيب أو أدائه، ولكني فقط شعرتُ بعدها أنني أستطيع أن أرى ما وراء ما يفعل، وأنني أعرف لماذا سأل ما سأل، وأنني أعرف أكثر من أن يساعدني أحد. آفة حياتي الأبدية: أعتقد أنني أعرفُ أكثر مما يجب. سألني الطبيب يومها عن أمي. نظر إلى يدي التي قبضتها، وأن أحكي عنها، وفهمتُ أنه أعتقد من حديثي أن أمي كانت تقبض علينا بيد من حديد. وأنا فهمتُ نظرته، وشعرتُ بارهاق شديد من أنني يجب أن أشرح له كثيرا جدا، حتى يفهم. ثم حتى أصحح له نظرته. جاريتُه الحوار حتى انتهت ساعتي، وذهبتُ ولم أعد. لم يسألني عنك. ربما كان سيسألني لاحقًا.  كنتُ سأنصفك يا أبي وأذكرك. لابد لأي طريق للتعافي أن يمر بك ومن خلالك. لكني شعرتُ يومها بالظلم. أيًا كان، أعرف أن من ضمن أساليب التعافي والتصالح التي كان سيقترحها علي في جلسات لاحقة، هي أن أكتب عنك. وأنا أقرر الآن، بعد سنوات من هذه الجلسة، وسنوات أكثر من رحيلك، أن أكتب لك كنت ما أريد أن أقوله، ليس...

عن المادة والروح والذكرى

  يجد الناس نقودا في جيوب معاطف الشتاءات الماضية، أو في جيوب حقائب لم يقربوها منذ زمن، أو تحت ركام أوراق نسوها في أدراج لا تُفتح. أنا عودتُ نفسي الزهد والتخلي، أحتفظ بأشياء قليلة جدا أعرفها جيدا وأعرف أين تركتها. لكني أترك قصاصات صغيرة بين صفحات الكتب، وأنساها. وكل قصاصة هي لمحة من الماضي تفرض نفسها على حاضري. على مقعد منزو، في شارع متفرع من شارع رئيسي، رأيت عروسة أطفال ، حجمها لا يتجاوز كف يدي، ساحت زينة وجهها من الحرارة وانتفشت شعيراتها الصناعية واشتبكت. ارتدت زيا عصريا ولكنه اتسخ وتآكلت أطرافه. نظرت حولي، لا أحد! من تركك هنا يا مسكينة؟! تنظر لي بعيون يملؤها الأسى ولا ترمش؛ ولم تجب. فمها الدقيق لم يتعلم الكلام؛ كل ما يفعله هو نصف ابتسامة، لا تدري إن كانت تبدأ أم تنتهي. في إحدى قدميها نصف حذاء، والأخرى عارية. بدت لي كطفلة سحقت براءتها الرأسمالية عندما زينتها، ثم انتهكتها المدنية حينما نسوها ملقاة على قارعة الطريق. تأملتها للحظة، ثم نظرت لنفسي، وذهبت في طريقي، هل كان علي انقاذها؟ من ماذا؟ هل ننجو بأنفسنا أم أن نجاتنا مرتبطة بنجاة الآخرين؟ في نفس اليوم الذي رأيت فيه العروسة، وجدت وس...

"لا الرحلة ابتدأتْ ولا الدربُ انتهى"

على غير العادة، ضبطت نفسي اليوم متلبسة بالسعادة. ولأن السعادة لحظة، أوقفتُ الزمن، وقسمّتُ ذاتي نصفين: نصف موجود، يرى ما حوله فيستوعبه، ويخزن من الحاضر كل خلجاته; أما النصف الآخر فقد اكتسب، بدون وعي مني، وعيًا بذاته، وسافر في الزمن للوراء، يختفي ويعود بذكريات عشوائية، الواحدة تلو الأخرى. كانت لحظة سحرية، اشتبك فيها الواقع مع الخيال، والحاضر بالماضي، وغلفت المشهد سحابة رومانسية لها رائحة غضة، كرائحة الأطفال، أو رائحة العشب الرطب، أو رائحة الهواء بعد هطول المطر؛ رائحة شيء بدأ لتوه، متحمسا ومتفائلا. كان جسدي ملقى على سطح الماء، لا يقاوم، ولا يغرق، ذراعي ممدوداتان وعينيّ مفتوحتان تلتهم السماء، ولا ترى غير الأزرق. حلق طائر فوقي تماما، فكنتُ أنا انعكاسه في الماء، صارا ذراعيّ جناحين، وكسى الريش جسدي، وخفّت أحشائي. أغمضتُ عيني، وعندما فتحتهما، كان قلبي طائرا، ينظر لأسفل، فيرى طائرا يسبح! خرجتُ من الماء، أو، بالأحرى، هبطتُ من السماء، يدق قلبي وتتسارع أنفاسي، من الرهبة والمفاجأة، وجلستُ أنظر لأصابعي وأقول أنا هنا، أنا موجودة. بالي رائق. لا أحب نفسي ولا أكرهها، فقط أعرفها وأعترف بها. مر طفل جانبي،...

عن الذكريات

  عرفت مؤخرا أن الحنين ليس أصيلا، بل هو فكرتي عن فكرة عن فكرة. الذكريات أصبحت ذكريات، عندما لم تعد حاضرا. كلام سوفسطائي؟ حاضر: قضيت عشرين عاما من عمري، في القاهرة، حيث نهرا عظيما، ولا بحر. الآن، أسكن مدينة يحفها المالح من كل الاتجاهات. وأنا بقرب النيل، كانت مكانته من مكانة الجسور التي تقطعه، والشوارع التي تحاذيه. أما البحر، فكان بعيدا وساحرا. أما الآن، وأنا كلما أدرت رأسي في اتجاه، لم ألمح إلا الأزرق، وإن كان ما زال البحر ساحرا، إلا أن النيل الآن صار بعيدا، وعظيما. أفتح الخرائط لأبحث عنه، وأتفقد، من على بعد آلاف الكيلومترات، شارعا سمعت فيه الموسيقى، وبيتا سكنته، ومطعما أكلت فيه، وذكرى مرت ولم يبق لها أثر. غريبة الذكريات، تبدأ حية، نابضة، ثم تبهت مع الوقت إلى مجرد صورة. وتصبح الصورة مع الوقت مجرد معلومة. أعرف أنني قابلت حبيبي على كوبري قصر النيل، وأنني عرفت نفسي على كورنيش المعادي، وأنني قرأت شعرا في شارع مراد، وأن قلبي دق في الزمالك، لكن، هل أتذكر؟ ثم إذا عدت يوما، ورحت أتفقد أطلالي على الأرض، خلقت ذكرى جديدة، عن ذكرى قديمة، عن حدث منته. الذكريات شفافة، يمر عقلي من خلالها ويقول:خي...

عذاب المعرفة ونعيم الجهل

  تأتيني الفكرة، ثم يأتيني صداها. يرن صدى أفكاري في رأسي، كزئير خافت، لأسد يحتضر. تعبر خاطري خاطرة، وما تلبث أن تستقر في رأسي، وأحاول تفكيكها، إلا وجاءتني توابعها. كزلزال وتوابعه. أتصالح مع الهزة الأولى، فتأتي هزات صغيرة متتالية لتحطم كل هدوء مفتعل عملتُ لأجده. أقول: أنا أعرف هذا، وهذا، وهذا. يفاجئني أنني أعرف الكثير. ترن الفكرة في رأسي، ترعبني، ثم ألوم لومي لذاتي، وأقول: من يكره أن يكون عليمًا! وأنا التي تختار عذاب المعرفة على نعيم الجهل. أهدأ قليلا، وما أن أنتشي، تبدأ التوابع: بم نفعتك المعرفة؟ ما قيمتها؟ وماذا عن الأسئلة التي لا إجابة لها؟ والله ليس غرورا، لكنه بؤسا شديدا. أنا لا أدعي معرفة كل شيء، ولا أزعم أنني أعرف كل الإجابات، لكن أسئلة العالم سهلة، عرفت إجاباتها منذ زمن، أما أنا، فلدي بعد كثير من الأسئلة التي لا أعرف لها إجابة. ولذا، عندما أغمضت عيني، وصفا ذهني، وراق خاطري، مع الشهيق، زارني فيض من علامات الاستفهام، ومع الزفير، كانت إجابات معظمها قد حضر، لكن ما ظل منها بلا إجابة هو الأسوأ. وخرج مني النفس على صورة تنهيدة. تظنني مللت، وهو ليس الملل، وإنما اليأس الذي حطمني. تشرد...

"ولا بعرف أبكي أصحابي غير في الليل"

الحياة تعاش مرة واحدة فقط. بلا إعادات. قد تُفسّر نسخة زائفة مني هذه الحقيقة على إنها "جميلة"، ويعلو صوتها وهي تردد: "هذه هي روعة الحياة، لا نعرف ماذا سيحدث، وكل ما سيحدث، لن يُعاد، هي مرّة؛ فلنغتنمها!". أما صوتي الحقيقي فهو غائبٌ، دفنته وعود تفاؤل قطعتها على نفسي، ومحاولات يائسة في الفكاك من حفرة الكآبة، ودموع جفت من مقلتيّ، فأغرقت رأسي. هكذا أنا. أجمع كل الأفكار السيئة، وكل الذكريات التعيسة، وكل ما أكره، وكل ما أعرف، أضعهم جميعًا في صندوق واحد، وأخفيه عن متناولي. ثم أصدق أن كل هذا لم يحدث. الهروب رائع. لا أحب الصراعات، وخاصة صراعاتي مع نفسي. وأخشى الاختلاء برأسي. وتمر الأيام. وعادي. أذهب وأجيء، وأرحل وأحط، وأعلو وأنخسف، والصندوق المخبأ بعناية فقد وجوده، عندما أنكرته. ثم يرحل صديق لي، وأنا لا أرى أي عدلا في أن يرحل هو، بينما أبقى أنا. وكأن أبي مات من جديد! يطفو الصندوق كأنه طوطم، يظهر فجأة على السطح ليخبر عن الحقيقة التي نساها البشر. ولأن الصندوق يحمل في داخله كل شروري، وكل شرور العالم، ينفجر في رأسي. ويتناثر في جنبات مخي التعيس، ركام أسود محروق بغيض. ولا يستطيع ماء...