"لا الرحلة ابتدأتْ ولا الدربُ انتهى"
على غير العادة، ضبطت نفسي اليوم متلبسة بالسعادة. ولأن السعادة لحظة، أوقفتُ الزمن، وقسمّتُ ذاتي نصفين: نصف موجود، يرى ما حوله فيستوعبه، ويخزن من الحاضر كل خلجاته; أما النصف الآخر فقد اكتسب، بدون وعي مني، وعيًا بذاته، وسافر في الزمن للوراء، يختفي ويعود بذكريات عشوائية، الواحدة تلو الأخرى. كانت لحظة سحرية، اشتبك فيها الواقع مع الخيال، والحاضر بالماضي، وغلفت المشهد سحابة رومانسية لها رائحة غضة، كرائحة الأطفال، أو رائحة العشب الرطب، أو رائحة الهواء بعد هطول المطر؛ رائحة شيء بدأ لتوه، متحمسا ومتفائلا.
كان جسدي ملقى على سطح الماء، لا يقاوم، ولا يغرق، ذراعي ممدوداتان وعينيّ مفتوحتان تلتهم السماء، ولا ترى غير الأزرق. حلق طائر فوقي تماما، فكنتُ أنا انعكاسه في الماء، صارا ذراعيّ جناحين، وكسى الريش جسدي، وخفّت أحشائي. أغمضتُ عيني، وعندما فتحتهما، كان قلبي طائرا، ينظر لأسفل، فيرى طائرا يسبح!
خرجتُ من الماء، أو، بالأحرى، هبطتُ من السماء، يدق قلبي وتتسارع أنفاسي، من الرهبة والمفاجأة، وجلستُ أنظر لأصابعي وأقول أنا هنا، أنا موجودة. بالي رائق. لا أحب نفسي ولا أكرهها، فقط أعرفها وأعترف بها. مر طفل جانبي، يضحك لمداعبة أبيه، فضحكت طفلة أخرى، على ضحك الطفل الذي لا تعرفه. ضحكتُ أنا أيضا. والضحك ده مزيكا! على البعد، مر مركب في قلب البحر لا أرى تفاصيله، ولا أعرف ركابه، ولكنّي أسمع موسيقاه، تملأ المكان: سايرينا يا دنيا، لفي بينا يا دنيا! فضحكتُ مرّة أخرى.
جلستُ في صمت، وروحي مقسومة يحاور كل قسم الآخر. نصفي الحاضر يتلو لدرويش: "سأصير يوما طائرا، وأسلّ من عدمي وجودي". ونصفي المسافر في الزمن يلقي بين يدي ذكريات، في العادة تؤلمني، لكني الآن أقلّب الذكرى بين أصابعي وأقول: حصل! وماذا بعد؟ "كلما احترق الجناحان اقتربتُ من الحقيقة، وانبعثتُ من الرماد". - والذنبُ؟ - ما جدواه؟ - كل ما تركناه خلفنا! - امتلكنا غيره! - أخطأنا! - عشنا! - لم نصل بعد! - "ما الآن، ما الغدُ؟"
"ربما ما زلتُ حيّا في مكان ما، وأعرف ما أريد". ربما هذه هي اللحظة، وهذا هو المكان. خلف الوجه العنيد غير المبالي، قلب حانٍ، ربما آن له أن يتكلم. لم تجد صلادة الخارج مع هشاشة الداخل شيئا. عندما فتحت قلبي، دخله الرضا وفارقه التوجس. ورأيتُ، فيما يرى الهاديء، الدنيا بعيون طائر، والمستقبل بقلب طفل، والماضي بصوت شاعر. رأيتُ "السماء هناك في متناول الأيدي"، قبضتٌ عليها، ولن أفلتها!
Comments
Post a Comment