عن الذكريات

 عرفت مؤخرا أن الحنين ليس أصيلا، بل هو فكرتي عن فكرة عن فكرة. الذكريات أصبحت ذكريات، عندما لم تعد حاضرا. كلام سوفسطائي؟ حاضر: قضيت عشرين عاما من عمري، في القاهرة، حيث نهرا عظيما، ولا بحر. الآن، أسكن مدينة يحفها المالح من كل الاتجاهات. وأنا بقرب النيل، كانت مكانته من مكانة الجسور التي تقطعه، والشوارع التي تحاذيه. أما البحر، فكان بعيدا وساحرا. أما الآن، وأنا كلما أدرت رأسي في اتجاه، لم ألمح إلا الأزرق، وإن كان ما زال البحر ساحرا، إلا أن النيل الآن صار بعيدا، وعظيما. أفتح الخرائط لأبحث عنه، وأتفقد، من على بعد آلاف الكيلومترات، شارعا سمعت فيه الموسيقى، وبيتا سكنته، ومطعما أكلت فيه، وذكرى مرت ولم يبق لها أثر.

غريبة الذكريات، تبدأ حية، نابضة، ثم تبهت مع الوقت إلى مجرد صورة. وتصبح الصورة مع الوقت مجرد معلومة. أعرف أنني قابلت حبيبي على كوبري قصر النيل، وأنني عرفت نفسي على كورنيش المعادي، وأنني قرأت شعرا في شارع مراد، وأن قلبي دق في الزمالك، لكن، هل أتذكر؟
ثم إذا عدت يوما، ورحت أتفقد أطلالي على الأرض، خلقت ذكرى جديدة، عن ذكرى قديمة، عن حدث منته. الذكريات شفافة، يمر عقلي من خلالها ويقول:خيال! وتمر عاطفتي من خلالها وتقول: هالة! كيف نسامح قلوبنا على الحنين، وفي العقل غصة الشك! وأنا، هنا، والآن، لست سوى كويكب شارد بلا مدار، تراه كالصخر، وفي قلبه الحمم أو صندوق قصاصات مترب، وُضع فوق الدولاب، واتنسى! يحمل قصصا، إذا قُرأت، لم تُصَدَق! وإذا لم تُقرأ، تآكلت مع تآكل الورق!

Comments

Popular posts from this blog

رسائل إلى أبي - كل ما أردت أقول، ولم أقل (1)

عذاب المعرفة ونعيم الجهل

"ولا بعرف أبكي أصحابي غير في الليل"