"ولا بعرف أبكي أصحابي غير في الليل"
الحياة تعاش مرة واحدة فقط. بلا إعادات. قد تُفسّر نسخة زائفة مني هذه الحقيقة على إنها "جميلة"، ويعلو صوتها وهي تردد: "هذه هي روعة الحياة، لا نعرف ماذا سيحدث، وكل ما سيحدث، لن يُعاد، هي مرّة؛ فلنغتنمها!". أما صوتي الحقيقي فهو غائبٌ، دفنته وعود تفاؤل قطعتها على نفسي، ومحاولات يائسة في الفكاك من حفرة الكآبة، ودموع جفت من مقلتيّ، فأغرقت رأسي. هكذا أنا. أجمع كل الأفكار السيئة، وكل الذكريات التعيسة، وكل ما أكره، وكل ما أعرف، أضعهم جميعًا في صندوق واحد، وأخفيه عن متناولي. ثم أصدق أن كل هذا لم يحدث. الهروب رائع. لا أحب الصراعات، وخاصة صراعاتي مع نفسي. وأخشى الاختلاء برأسي. وتمر الأيام. وعادي. أذهب وأجيء، وأرحل وأحط، وأعلو وأنخسف، والصندوق المخبأ بعناية فقد وجوده، عندما أنكرته.
ثم يرحل صديق لي، وأنا لا أرى أي عدلا في أن يرحل هو، بينما أبقى أنا. وكأن أبي مات من جديد! يطفو الصندوق كأنه طوطم، يظهر فجأة على السطح ليخبر عن الحقيقة التي نساها البشر. ولأن الصندوق يحمل في داخله كل شروري، وكل شرور العالم، ينفجر في رأسي. ويتناثر في جنبات مخي التعيس، ركام أسود محروق بغيض. ولا يستطيع ماء الدموع اطفاء ما كان في الأصل محروقًا. على قدر ما أعتبر نفسي نابهة، لا تستطيع نباهتي مساعدتي. أعرف كل الإجابات إلا الإجابات التي أحتاج. ومن جديد، يفقد العالم معناه، ويصبح الوجود ثقيلا، وبلا معنى. تفكيري المحدود يقودني إلى نكران الواقع. وكأن انكاره، سيجعله يتغيّر! عند الفاجعة، أفكّر أن كل هذا سيزول، ثم سنعود لما كنا، نحلل ونتذكر ما صار، سيكون بامكاننا أن نختار اختيارات مختلفة، نواجه ما هربنا منه، ونصبح جميلين وأصحاء وسعداء. لكن الموتى لا يعودون، ولا الزمن يعطينا الفرصة لنعيد الكرّة،. يالذكائي! يالتعاستي!
أنا باندورا التي لم تسيطر على فضولها، ونشرت الظلام في كل مكان. وصندوقي الأسود، به كل ما لا أريد أن أقول، وكل ما لا أريد أن أعرف. كيف نعتذر للحياة على حزننا؟ لا أريد أن أكتب، ولا أن أجهر، ولكنّي، صدقًا، وحيدة مع صندوقي، وربما إذا شاركت جزء من حزني، يخف قليلا، فأستطيع إغلاق الصندوق مرة أخرى، واخبائه في مكان أبعد، على أمل أن أنتهي قبل أن يطفو مرة أخرى. لكني حتى اللحظة، كلما تراجع الطوفان قليلا، وجفت بحور الدموع في عيني، واعتقدتُ أن الليلة الأخيرة هي الأخيرة في البكاء، وأصبحتُ أهدأ، زارتني كل الشرور في الليل مرة أخرى. أصارع طواحين الهواء في رأسي، وكلما أمسكتُ بفكرة، انفلتت. لا تسألني كيف أنا، لإنني وددتُ لو أعرف كيف أنا، وأين أنا، ومن أين أتيتُ. لكن الأسئلة التي تخرج من صندوق الشرور، لا تترك مكانًا لأي إجابة. سأنام الآن، ربما لا أستيقظ، أو ربما إذا استيقظت، كان العالم مختلفًا، لا نضطر فيه للركض في طريق بلا نهاية، يموتُ فيه أصدقاؤنا، ونشيخ وحدنا، ونلوم أنفسنا على كل حزن العالم، ولا نستطيع الفكاك من أحزان رأسنا.
Comments
Post a Comment