عن المادة والروح والذكرى

 يجد الناس نقودا في جيوب معاطف الشتاءات الماضية، أو في جيوب حقائب لم يقربوها منذ زمن، أو تحت ركام أوراق نسوها في أدراج لا تُفتح. أنا عودتُ نفسي الزهد والتخلي، أحتفظ بأشياء قليلة جدا أعرفها جيدا وأعرف أين تركتها. لكني أترك قصاصات صغيرة بين صفحات الكتب، وأنساها. وكل قصاصة هي لمحة من الماضي تفرض نفسها على حاضري.

على مقعد منزو، في شارع متفرع من شارع رئيسي، رأيت عروسة أطفال ، حجمها لا يتجاوز كف يدي، ساحت زينة وجهها من الحرارة وانتفشت شعيراتها الصناعية واشتبكت. ارتدت زيا عصريا ولكنه اتسخ وتآكلت أطرافه. نظرت حولي، لا أحد! من تركك هنا يا مسكينة؟! تنظر لي بعيون يملؤها الأسى ولا ترمش؛ ولم تجب. فمها الدقيق لم يتعلم الكلام؛ كل ما يفعله هو نصف ابتسامة، لا تدري إن كانت تبدأ أم تنتهي. في إحدى قدميها نصف حذاء، والأخرى عارية. بدت لي كطفلة سحقت براءتها الرأسمالية عندما زينتها، ثم انتهكتها المدنية حينما نسوها ملقاة على قارعة الطريق. تأملتها للحظة، ثم نظرت لنفسي، وذهبت في طريقي، هل كان علي انقاذها؟ من ماذا؟ هل ننجو بأنفسنا أم أن نجاتنا مرتبطة بنجاة الآخرين؟
في نفس اليوم الذي رأيت فيه العروسة، وجدت وسط صفحات رواية "الهوية" لميلان كونديرا، صورة لأبي وأمي، في بداية كل شيء، يضحكان وتفور الحياة من قسماتهما. تحمست، فصرت أبحث في كل الكتب. في وسط أوراق كتاب " قاعة المسافرين" وجدت بطاقة تعريفية بشخص لا أعرفه، وفي أسفلها عنوان لا أتذكره. وفي صفحات كتاب " عزاءات الفلسفة" وجدت نصف تذكرة لطيارة لا أتذكرها، ونصف تذكرة سينما لفيلم سيء دخلته وحدي لأقاوم الملل. رصصت القصاصات الأربعة أمامي، وصرت أصنع منهم حكايا، أعيد الترتيب فيحكون حكايات أخرى! عدد لا نهائي من القصص. هل يقولون لي شيئا؟ هل ثمة رابط؟ والعروسة؟
تزول في رأسي الفروق بين الجماد والحياة. الفرق الوحيد بين الحي والجماد، أن الأول عبّر بكلمات، والأخير لم يقل. ولكن غياب القدرة على التعبير لا يعني أن ليس لديه ما يقوله. أرى في البلاستيك روحًا هشة منهكة، وأرى في الورق روحًا قديمة خالدة، وأرى في المعدن روحًا عصرية فارغة.
لم يعد الماضي يزعجني، بفخر شديد أستطيع الآن أن أقول: أعترف بنفسي، وبكل ما فعلت! أنا كنت من البلاستيك، وأنا ألهث وراء ما لا أريد، ولكنني تعلمت حيَل البقاء! كنتُ ورقًا حين فتحت قلبي للقريب وللغريب، وحين انتشيتُ بنغمة وتمايلت بلا اكتراث، وتعلمت الخلود! كنت معدنا حين هجرت وقسوت وقلت سأكون أنا، صدأتُ، لكنني قبلها تعلمت كيف أبرق! بفخر شديد أقول: الماضي مرّ فعلا؛ ليس لدي الآن سوى الحاضر، وفي "الآن" أنا كالماء، مركب بسيط، شفاف، ذو أشكال مختلفة، وكلها حقيقية!

Comments

Popular posts from this blog

رسائل إلى أبي - كل ما أردت أقول، ولم أقل (1)

عذاب المعرفة ونعيم الجهل

"ولا بعرف أبكي أصحابي غير في الليل"