Posts

Showing posts from March, 2023

رسائل إلى أبي - كل ما أردت أقول، ولم أقل (1)

1 لم أذهب أبدًا إلى طبيب نفسي. ذهبتُ مرة واحدة في مدينة إسبانية، تبدو لي حقيقة أنني عشتُ فيها ما يزيد على العام، حلمًا أكثر منه ذكرى. لم تعيقني اللغة يومها، ولم يكن لدي أي ملاحظات على الطبيب أو أدائه، ولكني فقط شعرتُ بعدها أنني أستطيع أن أرى ما وراء ما يفعل، وأنني أعرف لماذا سأل ما سأل، وأنني أعرف أكثر من أن يساعدني أحد. آفة حياتي الأبدية: أعتقد أنني أعرفُ أكثر مما يجب. سألني الطبيب يومها عن أمي. نظر إلى يدي التي قبضتها، وأن أحكي عنها، وفهمتُ أنه أعتقد من حديثي أن أمي كانت تقبض علينا بيد من حديد. وأنا فهمتُ نظرته، وشعرتُ بارهاق شديد من أنني يجب أن أشرح له كثيرا جدا، حتى يفهم. ثم حتى أصحح له نظرته. جاريتُه الحوار حتى انتهت ساعتي، وذهبتُ ولم أعد. لم يسألني عنك. ربما كان سيسألني لاحقًا.  كنتُ سأنصفك يا أبي وأذكرك. لابد لأي طريق للتعافي أن يمر بك ومن خلالك. لكني شعرتُ يومها بالظلم. أيًا كان، أعرف أن من ضمن أساليب التعافي والتصالح التي كان سيقترحها علي في جلسات لاحقة، هي أن أكتب عنك. وأنا أقرر الآن، بعد سنوات من هذه الجلسة، وسنوات أكثر من رحيلك، أن أكتب لك كنت ما أريد أن أقوله، ليس...

عن المادة والروح والذكرى

  يجد الناس نقودا في جيوب معاطف الشتاءات الماضية، أو في جيوب حقائب لم يقربوها منذ زمن، أو تحت ركام أوراق نسوها في أدراج لا تُفتح. أنا عودتُ نفسي الزهد والتخلي، أحتفظ بأشياء قليلة جدا أعرفها جيدا وأعرف أين تركتها. لكني أترك قصاصات صغيرة بين صفحات الكتب، وأنساها. وكل قصاصة هي لمحة من الماضي تفرض نفسها على حاضري. على مقعد منزو، في شارع متفرع من شارع رئيسي، رأيت عروسة أطفال ، حجمها لا يتجاوز كف يدي، ساحت زينة وجهها من الحرارة وانتفشت شعيراتها الصناعية واشتبكت. ارتدت زيا عصريا ولكنه اتسخ وتآكلت أطرافه. نظرت حولي، لا أحد! من تركك هنا يا مسكينة؟! تنظر لي بعيون يملؤها الأسى ولا ترمش؛ ولم تجب. فمها الدقيق لم يتعلم الكلام؛ كل ما يفعله هو نصف ابتسامة، لا تدري إن كانت تبدأ أم تنتهي. في إحدى قدميها نصف حذاء، والأخرى عارية. بدت لي كطفلة سحقت براءتها الرأسمالية عندما زينتها، ثم انتهكتها المدنية حينما نسوها ملقاة على قارعة الطريق. تأملتها للحظة، ثم نظرت لنفسي، وذهبت في طريقي، هل كان علي انقاذها؟ من ماذا؟ هل ننجو بأنفسنا أم أن نجاتنا مرتبطة بنجاة الآخرين؟ في نفس اليوم الذي رأيت فيه العروسة، وجدت وس...

"لا الرحلة ابتدأتْ ولا الدربُ انتهى"

على غير العادة، ضبطت نفسي اليوم متلبسة بالسعادة. ولأن السعادة لحظة، أوقفتُ الزمن، وقسمّتُ ذاتي نصفين: نصف موجود، يرى ما حوله فيستوعبه، ويخزن من الحاضر كل خلجاته; أما النصف الآخر فقد اكتسب، بدون وعي مني، وعيًا بذاته، وسافر في الزمن للوراء، يختفي ويعود بذكريات عشوائية، الواحدة تلو الأخرى. كانت لحظة سحرية، اشتبك فيها الواقع مع الخيال، والحاضر بالماضي، وغلفت المشهد سحابة رومانسية لها رائحة غضة، كرائحة الأطفال، أو رائحة العشب الرطب، أو رائحة الهواء بعد هطول المطر؛ رائحة شيء بدأ لتوه، متحمسا ومتفائلا. كان جسدي ملقى على سطح الماء، لا يقاوم، ولا يغرق، ذراعي ممدوداتان وعينيّ مفتوحتان تلتهم السماء، ولا ترى غير الأزرق. حلق طائر فوقي تماما، فكنتُ أنا انعكاسه في الماء، صارا ذراعيّ جناحين، وكسى الريش جسدي، وخفّت أحشائي. أغمضتُ عيني، وعندما فتحتهما، كان قلبي طائرا، ينظر لأسفل، فيرى طائرا يسبح! خرجتُ من الماء، أو، بالأحرى، هبطتُ من السماء، يدق قلبي وتتسارع أنفاسي، من الرهبة والمفاجأة، وجلستُ أنظر لأصابعي وأقول أنا هنا، أنا موجودة. بالي رائق. لا أحب نفسي ولا أكرهها، فقط أعرفها وأعترف بها. مر طفل جانبي،...